01 - 06 - 2025

وجهة نظري| يهمنى الإنسان

وجهة نظري| يهمنى الإنسان

فى خضم دوامات حياة قاسية تلاطمنا أمواجها بعنف، تلاحقنا بحكايات يومية تشى بأقبح مافى النفس البشرية ..عنف، قسوة، قتل، إستباحة دماء، إزهاق أرواح بريئة، تعذيب، إنتهاك لآدمية، سحق لأحلام ووأد لأماني، ظلم وإضطهاد، تدمير لأوطان وتشريد لأصحاب الحق والارض، ضياع وتشرذم .. مواطنون يهربون من جحيم وطن، ووطن يسكنه غرباء يتقاسمون خيراته.

وسط نزيف إنسانيتنا الجريحة يطل علينا من بين ركام الألم بريقا من أمل، يطبطب على جراحنا ويهمس فى خجل كأنه إعتذار خفى بأن العالم لم يفقد بعد كامل إنسانيته، وأن هناك لمسات مازالت قادرة على لملمة بقايا أنفسنا الفزعة.

لانتعجب أن تأتينا تلك التطمينات من قلب أحداث جسام، من بين جريمة عنف وحشية قاسية، أو ربما دفعتنا تلك الوحشية للهروب منها بالبحث عن قدر من الرحمة يكمن فى طياتها، عله يخفف عنا بشاعة الجرم.

لم يكن مشهد الإرهابى الأسترالى برينتون تارنت الذي استهدف المصلين بمسجدى نيوزيلندا الأسبوع الماضى، ينبئ بما يمكن أن يخلفه من حكايات إنسانية تطمئننا أن العالم مازال بخير، أب يحتضن طفله ويظل على وضعه يحميه بجسده حتى يغادر الإرهابى المسجد، بعدما أطلق النيران ليصيب الأب وإن كان لطف الله أكبر فنجا بأعجوبة، رجل""أفغانى الاصل "" يهرع خارج المسجد ويترك صغيريه بعدما سمع صوت إطلاق النيران ليطارد القاتل ويمنعه من العودة لإستهداف عدد آخر من المصلين.. خرج مسرعا ورائه لمحه وهو يتوجه لسيارته لسحب سلاح آخر، بعدما نفدت ذخيرة سلاحه الأول الذى القاه على الأرض ليجده الرجل ويلقيه كالسهم ليحطم سيارة الإرهابى ويضطره إلى الفرار.

زوجة تلهث لدفع المصلين للخروج من الجناح المخصص للسيدات، وبعدها تذهب لجناح الرجال آملة فى إنقاذ زوجها القعيد (بنجلاديشى) لتلقى حتفها "نجحت فى إنقاذ أرواح الكثيرين لكنها تناست نفسها"هكذا عبر زوجها بكلماته الحزينة.

لحظات توقف فيها الزمن ليكشف عن إنسانية كدنا ننساها وسط حياتنا القاسية، جاءتنا وسط موجة الحزن لتكشف جوهرا أصيلا مازال يكمن فينا، وشت به شهامة رجال ولهفة وتضحية نساء وتعاطف أطفال لاينتمون لأوطاننا ولاديننا وربما لايعرفون الكثير عنا، لكن حركتهم الإنسانية فخرجوا للتضامن يحملون الورود ويلقون بكلمات إعتذار مثلما فعل أهالى نيوزيلندا، أو يحتضنون بحنان بالغ وتأثر واضح وأسف كما فعلت رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن وهى تقدم العزاء لأهالى الضحايا، مؤثرة إرتداء الحجاب كرسالة ضمنية بالغة الاثر لمن يفهم مغزاها، بينما آثر إسترالى ان يرفع الآذان بصوت عال فى بيته كرسالة أخرى متعاطفة مؤازرة.

أما المراهق الأسترالى فلم يكن أمامه للإحتجاج على السيناتور الأسترالى المتطرف، الذى أدان الضحايا وألقى باللوم على المهاجرين وأنهم السبب فى إراقة الدماء فى نيوزيلندا، إلا أن أخرج بيضه من جيبه ليكسرها على رأس السيناتور العنصرى .. تراجع الصبى بعد إلقاء القبض عليه وتأكيده أن مافعله لم يكن مناسبا لكنه فى النهاية أفرغ شحنة غضب وإن كانت لم توظف بالشكل الامثل،أما الاكثر تعقلا وحكمة من الأسترالين فعبروا عن غضبهم من تلك العنصرية بوثيقة وقع عليها  900 ألف إسترالى طالبوا فيها بطرد السيناتور من البرلمان.

قمة الرقى الإنسانى تجسد فى  توديع الشهداء، حزن وألم ومحاولات شتى للإعتذار وإعلان التضامن .. رئيسة الوزراء وكثير من السيدات يرتدين الحجاب والسواد، آذان الصلاة يصدع، دموع وبكاء واعتذار لايتوقف فى سعى جدي لتجاوز آثار الجريمة البشعة.

تتوالى مشاهد التضافر والتىخر ونبذ العنصرية وتتكشف ملامح إنسانية كدنا نفتقدها، ربما تتوه مره أخرى ليتصدر المشهد ملامح اعتدنا عليها من البشاعة والوحشية والقبح إلا أنها أبدا لن تختفي، ربما لاتنجح فى فرض سطوتها على المشهد وربما ستتوارى حتى لاتستبين ملامحها، لكنها أبدا لن تموت. ستطل علينا بين حين وآخر لتذكرنا بأجمل مافينا ليهمس صوت ضمائرنا ويعلو صوتنا غناء "يهمنى الإنسان ولو ملوش عنوان".
-------------------
بقلم: هالة فؤاد

مقالات اخرى للكاتب

ماما أمريكا وخالتو أوروبا